Tuesday 29 November 2011

نخبويّة

كان الزّمان عشيّة صيف دافئة.. و  كان المكان مقهى راق إلى حدّ يتناسب و ما جمَع شمل هؤلاء الفتيان الثلاثة.
أمين لم يكن ممّن تأتي بهم القدم إلى هذا النّوع من الأمكنة.. أمّا رفيقاه فكانا لا يجدان حرجا في مقْدَمهم.. لكن تعوّدهما لم يمنعهما من الانعزال عن بقيّة من في المقهى.. إذ كان شرط أمين لمرافقَيْه أن يَذروا أصحاب المقهى في غيّهم و غوغائهم و يجدوا لهم مكانا قصيّا يتحادثون فيه..

استقر بهم المجلس في فناء خلفي مطلّ على حائط حاول صاحب المحلّ درء وحشته بنباتات متسلّقة..
بالنّسبة لأمين لم يكن الفناء الخلفي بتلك الرّداءة.. فهو يوقن بأنّ المجلس لا تصنعه الأمكنة و لا الأزمنة بقدر ما يصنعه من أدركه.. و هذه لعمري رفقة يصبو لها كلّ طامع في علم و خبرة.. فصديقاه رغم ما ذهبا إليه من افراط في الاعتناء بالدّنيا إلاّ أنّهما أوتيا الرّأي السديد و الأذن الصاغية..

مضى على افتراقهم سنتان أصاب كلّ منهم فيها عملا يشغله و يدخّر منه ليوم كان مقدار نفقته ألف يوم.. سوف يمضي معهما ساعة يتجاذبون أطراف الحديث عامّه و خاصّه و يتبادلون ما علا شأنه من الأفكار..



تساءلوا فيما بينهم عن حال دنيا كلّ منهم.. أشعل أحد صديقيه سيجارة يضيء بها ظلال عقله.. و لاحظ أنّ ثالثهم لم يأت بسجائره فناوله علبته.. أبى هذا الأخير إلاّ أن يلبّي الدّعوة السخيّة شاكرا..
علت أصواتهم في نقاش حول ما أصاب التعليم الجامعي من فساد و بعد فاحش عن سواء السبيل.. لم تفتهم نظرات جانبيّة متعجّبة في أمرهم مستهزئة بقدرهم مستنكرة لحضرتهم.. و لم يغب عنهم خواء طاولتهم رغم مرور نصف ساعة على جلوسهم.. فمن بين عشرات العاملين في المقهى لم يتكرّم عليهم نادل واحد بخدمتهم..
ما أن أدرك آذانهم وقع خطى قادمة من داخل المقهى إلى الفناء الخارجي حتّى التفتوا بلهفة .. حركة صاحب السجائر كادت أن تكلفه انقلاب مقعده و لولا أنه تدارك نفسه لوقع في شرّ المواقف.. طال بالفتيان الانتظار.. لكن سرعان ما خاب أملهم بظهور ثلاث فتيات..
أسرفت القادمات في التأنّق حتّى أنّ الرّائي ليظنّ أنّهنّ جئن رأسا من حفل زفاف.. لم تستقرّ عيون الفتيان على هذه الشرذمة من المدلّلات اللاّتي يحججن جماعات نهاية كلّ الأسبوع إلى قاعات الشاي ليتبجّحن بجمال صنعته المساحيق و قصار الأقمصة و التّنورات.. يأتين من كلّ فجّ عميق ليُضعن بعضا من أعمارهنّ.. يتحادثن في صغائر الأمور و عديم نفعها.. يتبادلن القبلات و العناق بحرارة هستيريّة كأنّ يد الموت ستأخذ احداهنّ بعد خمس دقائق.. يقهقهن بوقاحة يعجب لها المرء.. و يدخّنّ السجائر كمحرقات الجثث في القارّة العجوز أيّام الموت الأسود..

اعتدل الفتيان في جلستهم..
"هلاّ أعطيتني سيجارة أخرى" طلب أحدهم
"سأعطيك اثنتين ان أتى نادل" أجاب صاحب السجائر ممازحا
"ذلك ضرب من الخيال" ردّ صاحبه الدّعابة بأحسن منها
أطلق الفتيان ضحكات متحفّظة على هذا التعليق الأخير تزامنت مع نزول الفتيات من المدرج..

لم تكد الفتيات تجلسن حتّى ظهر أمامهنّ نادل تعلو محيّاه ابتسامة مشرقة.. علم أصحابنا أنّها فرصة نادرة للتمتّع بحقّهم في الخدمة فنادى مُناد منهم ذاك النّادل باشارة مهذّبة..
رفع أمين عينيه فوقع بصره على احدى القادمات و هي تطفئ سيجارة وليدة.. أ لا تعلم هذه الفتاة العابثة أنّ الواحد ممّن ضاقت به سبل الشّغل و ابتُلي بالتّدخين يتجرّع الهوان يوميّا في سبيل سيجارة كهذه.. تبّا لهذا الترف المقيت..
جاءهم عامل المقهى بتثاقل و وجه مكفهرّ كمن رأى طير شِمال.. و دون أن يقدّم لهم قائمة المشروبات سألهم بجفاء و نفاذ صبر عمّا يريدون شربه.. فطلب أمين قدح شاي و أمر المدخّنان بقهوة لكلّ منهما..

يتبع

---
Footnotes:
As a side note, the seemingly twisted title of this entry is the Arabic translation of the word "elitism". At least, the one I'm aware of.
Also, I think that the image I used here requires an explanation. As a matter of fact, ravens and the whole family of crows are falsely deemed foolish. This could be due to the short tale of the fox and the crow we learned in our early age. But, ethologists do not really seem to uphold that opinion as crows are likely one of the most intelligent known birds. So, to summarize, the image goes along with the title of the entry and the guys could be seen as three disregarded smart ravens. [I apologize for explaining my point in English]

The image posted herein is copyrighted to its respective owners.

4 comments:

Lili said...

السلام عليكم أخي تاتاشي ، كيف الحال ؟
تدوينة جميلة بأسلوب سلس ... هذه القصة الثالثة التي أنتظر أن تكملها ؛)
القصة الأولى كانت حول ثلاث فتيات، إحداهن طالبة في كلية الطب ، هل هناك علاقة بين القصتين ؟ و ذلك الشاب الذي وقع من فوق دراجته النارية ذاك اليوم، هل يزال على قيد الحياة ؟ :)))
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة :)

Deceazed Fella said...

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

الحال بخير و الحمد لله
مشغول بعض الشيء هذه الأيّام في وضع اللّمسات الأخيرة في العمل المطلوب منّي، و في هدر ما تيسّر من وقت فراغ في المقهى

و انت شنوّة أحوالك؟

أمّا بعد
أعترف أنّي تعمّدت طمس العلاقة بين الأجزاء الأربعة حتّى الآن لكن القصّة واحدة

في هذا الجزء ألقي الضوء على "الشرذمة من المغفّلين الذين يحجّون فرادي و جماعات إلى قاعات الشّاي في نهاية كلّ اسبوع" التي مررت بها عابرا في جزء سابق

في كلّ الأحوال لا يزال هناك خمس أجزاء أخرى تقريبا و شرح صغير لأسباب كتابة هذا النصّ
سأحاول أن أعجّل بكتابتها ان شاء الله

و كالعادة شكرا على القراءة و التعليق
تعليقاتك و بقيّة أصدقائي هي التي تجدّد نفس الكتابة لديّ كلّما كتمته الرّتابة
شكرا ليلي-تشان ^^

مرجانة said...

أوّل مرّة أقرأ لك :) أسلوب جميل و غامض و سلس.
I like it.

Deceazed Fella said...

بارك الله فيك
شكرا على القراءة و التعليق
و مرحبا بك في مدوّنة ديسيزد ^^

Post a Comment