Thursday 5 January 2012

السيّدة البيضاء

أتت من بعيد يكسوها البياض.. لم تكن شابّة شقراء ذات عينين زرقاوين و حسن يخلب الأفئدة.. بل لم تكن شابّة أساسا.. كانت سيّدة في تبدو في العقد الخامس من عمرها و قد بدأت التّجاعيد تظهر حول فمها و عينيها.. لن نذهب إلى القول بأنّها كانت حسناء في سنوات شبابها لكن ملامحها كان تثير الرّاحة في النّفس و قد بدا أثر الطّيبة بوضوح على سحنتها.. إنّ الوجوه هي حقّا نوافذ القلوب.. من المستحيل أن يقع برهنة ذلك علميّا لكن أتصوّر أنّ من قضّى سنوات عمره في زجر الأخرين و التسلّط على من هو أقلّ شأنا منه فلا بدّ أنّ شيئا من القسوة سيغزو محيّاه كذلك هو الشّأن بالنّسبة لمن كان قلبه يفيض حنانا.. أتت مبتسمة و قد تجسّدت في تعابير وجهها مسحة من الأمومة.. حقّا لم تكن مغرمة جدّا بالملاءات السّودا ء.. و إنّي لأعجب أن يخيّل لكم أنّ سيّدة لها هذا الوجه الحنون بامكانها أن تحمل المناجل و الجماجم..

هناك دائما طفل في مكان ما من هذا العالم.. قد يكون في العمارة المجاورة أو في قبو مظلم أو ربّما في دغل من الأدغال أو حتّى في عرض بحر متلاطم الأمواج.. لكنّه هناك و لا يزال.. طفل مضطرب الخطوات ضعيف كعود من الخشب يتظاهر بالصّلابة و يقضّي يومه بين اللّعب و التفاخر بألعابه أمام أقرانه.. طفل أثار لغز حيرته و بعث في نفسه التساؤل و ربّما الذّعر.. طفل ربّما أقنعته إجابة ما و ربّما تظاهر باللاّمبالاة.. إنّ أيّ طفل سيتحرّق شوقا لمعرفة محتوى ذلك الصّندوق الكبير في أعلى الرفّ و الذي لم يستطع هو و لا أيّ طفل آخر إدراكه.. و هنا تأتيه السيّدة صاحبة العباءة البيضاء مبتسمة في رقّة حاملة في يدها مفتاح صندوق الأسرار ذاك.. عندما تأتي يرمقها طفل في توجّس و يحملق فيها آخر بعينين زائغتين و ينظر نحوها غيره في طمأنينة.. مهما تكن نظرته فلم تزل تلك السيّدة دوما ترفع كفّها و تضعها برفق على جبهته و تأخذ بيده كأمّ رؤوم ثمّ تفتح أمامه العلبة..


بعضهم يقول بأنّ محتوى العلبة ظلمات و عدم.. و البعض الآخر يجزم بأنّها تحتوي صور حياتك منذ ولدت إلى يوم تراه.. بينما يفضّل شقّ آخر منهم الرأي الذي يقول بأن الصّندوق فيه مفتاح مرج مترامية أطرافه يحوي أزهارا مختلفة ألوانها متناثرة في حبور بين أعشابه حتّى صار كبساط أحسن الصّانع تنميقه و قد رُفعت فوقه قبّة زرقاء تكاد تكون صافية لولا أنّها شابتها بعض من سحب بيضاء كأنّها القطن في النعومة و النّقاوة..
لم ير أحد من الأحياء ما تحتويه العلبة أعتقد أنّ ذلك كان واضحا..

عندما سقط صاحبنا من على متن درّاجته أدرك أنّها ستأتيه أخيرا.. سيتخلّص أخيرا من المادّة.. سيعلم أخيرا ما يحتويه الصّندوق -أم هو صندوقه.. ستأتيه أخيرا و في جرابها الحقيقة و الخلاص.. لقد أعيته سنين البحث و التّساؤل.. التّجريب صار ركنا من أركان البحث العلمي لا يستقيم إلاّ به.. ربّما كان لا يعلم ذلك.. أما ما كان حتما يعلمه فهو أنّ
هذه التّجربة لم تزل تعاد منذ ما يقارب الأزل و لم يعش أحد ليقصّ على مسامعنا قصّة السيّدة و الصّندوق..

أتت فتحت له الصّندوق و تركته ثمّ غابت في الأفق تجرّ عباءتها البيضاء.


يتبع

---
Footnote:
هذه التدوينة هي تكملة لسلسلة من التدوينات يمكن الاطّلاع عليها في التّرتيب العكسي باتّباع هذا الرّابط
The image posted herein is copyrighted to its respective owners.

16 comments:

Michmécha said...

في عوض ما نجاوبك في المدونة متاعي نجاوبك هوني خير :))))
قريت التدوينة برشا مرات و طفل صغير ذكرني بعبد نعرفو... نعرفو مليح زادة... و هذاكا علاش ابتسمت!

نشوفك عن قريب تو تلاحظ نوع الإبتسامة...
بيييزو :)))))

Deceazed Fella said...

يا مرحبا
هالخطى السعيد =D

كبريائي البشري أوحى لي بتساؤل xD
لكن ما نحبّش تأكيد أو نفي
خلّي الاجابة سرّ في صندوق آخر بعيد المنال =p

على ذكر نشوفك عن قريب
إيمان حمراء حمراء قاعدة تقوم بعمليّة تعبئة لبعض الوجوه النيّرة للقاء في وسط المدينة من المحتمل أن يحدث يوم السبت القادم ان شاء الله

Michmécha said...

تنجم تتكرم و تحل سكايب؟؟؟؟

ملا حالة ...

Unknown said...

ça me rappelle bien l'experience du chat de schrodinger, mais je ne vois pas ce qui pourrait faire que sa toge redevienne blanche... I mean, how can one hope guessing what is in the box, if he can not be sure seeing the truth as it is, not like he wishes or fears it being

Deceazed Fella said...

@مشمشة
للأسف الحواسيب ماهيش متوفّرة برشة هذه الأيّام

@البرابشي
هذه زيارة نادرة الحدوث =D

للتوضيح صاحب الدرّاجة كان يعيش لحظاته الأخيرة و لا أظنّ أنّه كان يفكّر بنفس حماسك في أثر الملاحظة على مجريات تجارب الفيزياء الكميّة
كلّ ما في الأمر هو أنّه عبّر عن تصوّر معيّن للموت باطنه الفلسفة و ظاهره من قبله البساطة السّاذجة

على كلّ حال شكرا على القراءة و التعليق و مرحبا بك ^^

Sarra Jouini said...

إنّ الوجوه هي حقّا نوافذ القلوب.. من المستحيل أن يقع برهنة ذلك علميّا لكن أتصوّر أنّ من قضّى سنوات عمره في زجر الأخرين و التسلّط على من هو أقلّ شأنا منه فلا بدّ أنّ شيئا من القسوة سيغزو محيّاه كذلك هو الشّأن بالنّسبة لمن كان قلبه يفيض حنانا

May I have the right to quote you elsewhere dear Atef ?

Deceazed Fella said...

مرحبا

طبعا الدّار دارك =D

Khaoula said...

جميلة :)

Deceazed Fella said...

شكرا ^^

تأبّط خيرا said...

السّلام عليكم و رحمة الله

قصّة جميلة :)

أعجبتني و أعطتني عدّة أفكار حيث أنّي أخطو خطواتي الاولى في عالم كتابة القصص في مدوّنتي المتواضعة جدّا (و سأكون سعيدا ان ألقيت عليها نظرة ^^
http://abovebweorold.blogspot.com/2012/01/blog-post.html)

و أرجو أن أعود الى هذه المدوّنة في المستقبل القريب.

Deceazed Fella said...

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

هذه التدوينة هي آخر جزء في سلسلة أجزاء من قصّة قصيرة شرعت في كتابتها منذ بضعة أشهر
و أنا حقّا سعيد أنّها نالت الإستحسان

على كلّ حال شكرا على القراءة و التعليق =]

تأبّط خيرا said...

عفوا =]

في إنتظار مزيد من كتاباتك =]

stargazer said...

السلام عليكم ورحمة الله
يسرني، بل يمتعني أن اقرأ مدوناتك من حين إلى أخر. لم تتسن لي الفرصة لمعرفتك حق المعرفة. لطالما عرفت أنك كهؤلاء الأشخاص النادرين الذين يضفون إلى حياتنا شيئاً ما، لا يوجد عند غيرهم.
أرجو أن تستمر في الكتابة، وعلى أمل قراءة كتاباتك، دمت في رعاية الله.

Deceazed Fella said...

و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته

ربّي يبارك فيك و يعلّي مقدارك في الدّنيا و الآخرة

الكنية متاعك ماهيش غريبة عنّي
باش نخاطر و نقول اللي هاذي مفاجئة سارّة ^^
شنوّة أحوالك؟ و شنوّة عملت في رسالة الماجستير؟
وقتاش تبدا العمل في السّيرن ان شاء الله؟ =D

stargazer said...

أهلاً عاطف - سان :) ربي يوفق الناس الكل. الهدف متاعي تونس مش سيرن ؛) وربي يسهل في إلي فيه الخير.
وانتي اش عامل؟ إن شاء الله كل شي ماشي كما تحب وربي يوفقك.

Deceazed Fella said...

آمين
أجمعين ان شاء الله
الأمور تحت السّيطرة و الحمد لله ^^

Post a Comment