Monday 9 July 2012

حفلة الشاي الأخيرة

بدأت الشّمس تلين بعد يوم من القسوة ألهب فيه شعاعها الوجوه و الأعناق كأنّما هو سوط بيد سيّد غليظ القلب أبى إلاّ أن يعاقب عبيده لسبب مبهم لا يعرفه هو نفسه.




لم تصل ريم بعدُ إلى تلك الدّرجة من الاضطراب العاطفي التي تسمح لها بتأمّل مشهد الغروب و قد ارتسمت على محيّاها نظرة حالمة بلهاء.. لم تكن من ذلك النّمط من الفتيات اللاّتي لا يقدرن على احتواء طوفان أحاسيسهنّ فتجد الواحدة منهنّ تملأ أوراقها قلوبا و أعينا كلّما سهت أثناء دراستها و ترثى لنفسها في قهر و أسى إلى حدّ البكاء لها كلّما استمعت لأغنية حبّ حزينة و لا تكفّ عن السّعادة الهستيريّة كلّما رأت هرّة أو دبّا قطبيّا رضيعا.. ريم تدرك طبعا أنّها لا تتعامل مع العالم من منطلق الحتميّة العلميّة -و هي لا تدري حقّا ما كنه هذا الشّيء- فأيّامها معدودات و الحياة واحدة و لا وقت لديها لكلّ ذلك الهراء الفكريّ.. و هي لا تنفي أنّها سريعة الاعجاب بتلك الكائنات الهشّة و الطبّ القطبيّ ما لم يزل رضيعا.. بيد أنّها تعلّمت مبكّرا أن تكبح جماح عواطفها فلا تظهر منها سوى القليل الذي لا تهتزّ له صورتها في الأذهان و لا ينقص من كبرياءها شيئا.. لا غرابة في الأمر فقد وُهبت ريم المال و الجمال و الدّلال.. و هي تعتقد جازمة و ذلك لا يخلو من الصّحّة أنّها أجمل الجميلات بين أترابها في الوسط الذي ترعرعت فيه و هي أكثرهنّ رقّة و أشدّهنّ فطنة و لولا بقيّة من عقل لقالت بأنّها هبة لأهلها و زهرة وسط صحراء مقفرة.. لحسن حظّ الجميع كانت سرعان ما تطرد تلك الخواطر النّرجسيّة و تضع قدميها على أرض الواقع.. و مهما يكن الأمر فقسوة الواقع لن تنقص من ريم شيئا و هي لا تخفى عنها عيوبها و تعلم حتما كيف تداريها عن أعين المتطفّلين..
أُنيرت بعض مصابيح المقهى مع تسرّب أوّل قطع الظّلام و بدأت تَفٍدُ بعض الكائنات اللّيليّة.. إنّ هؤلاء لمحظوظون! فنهاية اليوم بالنّسبة لريم هي نذير بنهاية كلّ نشاط خارج البيت.. كانت لا تجد حرجا في لباس ثياب هي نفسها ترى فيها ضربا من الجرأة و كان والدها على نقيض ما تتذمّر منه بعض صديقاتها في أُسرهنّ ، لا يصدر منه أيّ تعليق على ذلك فهي تعتقد أنّه يوقن بأنّ اللّباس من أمور الإناث و أمور الإناث سرّ الأمّ و ابنتها.. لكنّه و إن تغاضى عن شكل تنّورتها القصير أكثر ممّا تسمح به أعراف أكل عليها الدّهر و شرب، فهو لا يتسامح مع توقيت عودة ابنته إلى البيت.. ريم كانت مغتاضة بعض الشّيء من ذلك الأمر و لم تجد على رأس من تصبّ غيضها لأنّها تعلم يقينا بأنّ أباها لم يكن مبالِغا في موقفه فبعد الثّورة صار المشي وحيدة ليلا في شارع قليل الاكتظاظ مغامرة لا تقلّ خطورة عن التجوّل في أحراش غابة مليئة بالأسود و الثّعابين.. حتّى التنقّل بالسيّارة بالنّسبة لفتاة في حسنها و بهائها في ساعة متأخّرة من اللّيل كان يحمل في طيّاته مخاطر من نوع ما.. مخاطر هي لا تعلم شكلها و نوعها لكّنها لا تنكر وجودها و لم يساورها شكّ في ذلك..

لم تشأ أن تضيع ما تبقّى من جلستها فالدّقائق معدودات و الجلسة واحدة و لا وقت لديها للابحار في خواطرها.. عادت تمازح صديقتيها و تتناقش معهنّ حول ميوعة الفتيان هذه الأيّام و كيف أنّ الواحد منهم بنيته الجسديّة و الفكريّة تعادل بنى الأطفال و أحلامهم في زمن غابر، فتراه لا يقدر على حمل أوزار دراسته من كتب و معدّات و مسؤوليّات المراجعة و الإمتحانات فما بالكنّ بأعباء زوجة في جمال إحداهنّ و ما تتطلّبه تلك من جهود أسطوريّة.. فرغن أخيرا إلى أنّ آخر الرّجال على كوكب الأرض هم آباؤهنّ..

اتّخذ الظّلام شكلا أكثر كثافة و بدأت الإضاءة التي تأتي من جهة مبهمة تعطي المكان ذلك الطّابع المسرحيّ الرّومنسيّ أو ربّما هو مرعب لو أطلقَت لخيالها العنان أكثر.. لقد ولّى زمن الرّجال حقّا و أتى زمن الشّباب المستهتر المتراخي الذي يحسب أنّ الرّجولة تتلخّص في لحية غير حليقة منذ ثلاث أيّام و علبة سجائر تصاحبه أينما ذهب، في المعهد، في الكليّة و في فراشه و ربّما هو لا ينسى أن يحملها في جيبه و هو قاصد بيت الرّاحة.. كانت تتجوّل بعينيها بين الجالسين و قد بدأت الأنوار تلقى على وجوههم ظلالا تجعل بعضهم أقرب إلى الوحوش منهم إلى البشر.. أحمق هو من قال أنّ هذه الإضاءة كانت رومنسيّة...
انتهى بصرها عند طاولة الفتيان الثلاثة و قد أصبحوا اثنين.. كان أحدهم قد غادر و كان آخر قد حوّل مقعده فصار في مرمى نظرها مباشرة بعد أن كانت لا ترى منه سوى قفاه.. دقّقت النّظر فيه.. كان شابّا نحيلا يضع نظّارات طبيّة رقيقة الجوانب، ذقنه لم تحلق منذ ما يقارب الثلاثة أيّام و كان يدخّن سيجارة بنهم.. عندما يضع فتى مدخّن سيجارة بين شفتيه فهي تلاحظ دوما ذلك التّعبير السّخيف على وجهه حين يضيّق عينيه ليبدو أكثر وسامة و خبرة و عمقا.. هذا الرّجل الشّاب لم يكن يتظاهر بأيّ من ذلك و كان يتبادل الأحاديث مع رفيقه و يضحك بلا تكلّف كأنّ وعيه توقّف عند حدود مجلسهما.. لم تكن الأنوار الغبيّة تسمح بأكثر ممّا رأت ريم لكنّ ذلك لم يمنعها من مراقبة ذلك الكائن المثير للفضول و هي تتظاهر بالنّظر باهتمام إلى النّباتات المتسلّقة على الجدار خلفه..

يتبع


---
Footnote:
The image posted herein is copyrighted to its respective owners. Check this page for more.

2 comments:

Lili said...

السلام عليكم ، :)

أسلوبك الروائي جميل و خاصة كيف تبدا توصف :)

ريم فتاة عقلانية حسب ما فهمت، و تتشكى من الأولاد المايعين، لكن حسب ما وصفت نمط عيشها و لباسها ... يظهرلي ما يلزمهاش تلوم عليهم برشا .. و ربي يهدي ..

في انتظار البقية ، و إن شاء الله المرة هذه على قريب :)

Deceazed Fella said...

و عليكم السلام و رحمة الله

شكرا
ربّي يبارك فيك ^^

ما نحبّش نعطي رأيي في ريم لأنّها عطات اللي عندها الكلّ على لسان الراوي
أما خلّي نقول أنّها تعكس الحالة متاع الانسان العادي اللي يبحث عن من هم أفضل منه دون أن يعترف بذلك لنفسه

عندي جزء على الأوراق تو نبدا في رقمنته في أقرب الآجال ان شاء الله
بارك الله فيك على القراءة و على التعليق الحلو ^^

Post a Comment