Thursday 20 September 2012

قسوة

مع مرور الزّمن بدأ موقع عمر و صاحبيه على سطح الكوكب يخرج من مرمى أشعّة الشّمس. ألقى أمين نظرة على ساعته اليدويّة، عدّل من هندامه ثمّ قال :
- اقترب وقت صلاة المغرب.. سألتحق بالمسجد.. هلاّ أتيتما؟ أظنّ أنّكما لا تزالان مواظبين على الصّلاة!
- نعم لازلت على الإسلام ؛ أجاب ضياء ثمّ أضاف :
- لكن أعفني من مرافقتك.. سأقيمها عندما أعود إلى البيت..
- حسنا.. و أنت يا عمر؟
- مثله تماما ؛ أجاب عمر.
- هداني الله و إيّاكما..
- آمين!


غادر أمين المقهى مستعجلا دون أن يرفع بصره نحو الجالسين أو ربّما هو أراد تحاشي الجالسات. استهلّ الصّديقان حديثهما حول ما استجدّ في البلاد من تعاقب سريع للحكومات و من فوضى و إلغاء تام للعقل على حساب ما تحكم به الأهواء، و فرغا إلى أنّه لا خير يُرجى من الشّعب و حكومته.. رغم ذلك يعتقد عمر في قرارة نفسه أنّ الحتمية العلميّة تقضي بأنّ أيّ نظام فيزيائي في حالة لاتوازن يسعى مطلقا إلى توازنه.
تواصل دوران الأرض القسري حتّى كاد نور الشمس يغيب كليّا، أنيرت أضواء المقهى و بدأت بعض المجموعات البشريّة تغزو المقاعد كالجراد جارّة خلفها ضجيجها و غبائها و ثاني أكسيد كربونها. فتستهلك لترات من الثّروة المائيّة على ندرتها و تساهم في الاحتباس الحراري بما تيسّر لها من وسائل.. صار التواصل بين الشابّين من مقعدين متقابلين يعتمد أكثر على الإشارات و عبارات على شاكلة "آه" و "ها" و "أعد ما قلت"، فدعا ضياء عمر إلى مقعد أمين بمحاذاته.. أجاب صاحبنا الدّعوة و قدّم لصديقه سيجارة كعربون استحسان.. تناولها ضياء شاكرا، أشعلها، ملأ صدره بنفس عميق سرعان ما نفثه متنهّدا ثمّ قال محدّقا في الأفق الذي غاب نوره أو كاد :
- لقد أكّدت لي تجربة ربع قرن على سطح كوكب الأرض مقولة أديب أمريكي  غاب عنّي اسمه.. إنّ الذّاكرة شبيهة بشباك الصّيد ؛ هي شباك صيد من نوع خاصّ، في البدء تكون ثقوبها صغيرة و خيوطها متقاربة ثمّ لا تزال تتباعد هذه و تتّسع تلك فإمّا أن تقطّع أو يتوفّى صاحبها الموت.. كانت ذاكرتي في الصّغر صلبة لا يفوتها شيء من ركام الذّكريات سوى غبارها ثمّ تحوّلت شيئا فشيئا إلى ما يشبه شباك صيد أسماك التّونة.. لكن ما نطق به أديبنا كان ضخما كالحيتان راسخا في الأذهان.. قال القائل أنّ العقول العظيمة تناقش الأفكار و العقول المتوسّطة تناقش الأحداث، أمّا العقول البسيطة فهي تناقش الأشخاص.. لا أستطيع الجزم بصحّة تلك النظريّة بطريقة علميّة صارمة لكنّي أعتقد أنّك عيّنة حيّة تؤكّد الثّلث الأوّل من المقولة.. أعترف أنّي لم أكن أعتقد فيك ذلك، لكن منذ جمعتنا مقاعد الدّراسة لم أعهد منك إطالة حديث في أخبار الخاصّة و العامّة إلاّ و ارتقيت به إلى مرتبة الأفكار و الاستنتاجات المنطقيّة.. يعتقد البعض أنّ تعاطي المنطق إلى حدّ التّخمة يؤدّي إلى موت القلب لكنّي أظنّ أنّ روحك لم تخبُ بعد و لو أنّها فقدت ألوانها و اصطبغت بستّ و خمسين ومائتي درجة من درجات الرّمادي.. و سأذهب إلى القول بأنّك خفيف الظلّ إلى حدّ ما و أحيانا لا تتورّع عن الاقدام على أفعال و أقوال مستصغرا عواقبها..
- أشكرك على هذا التّقديم الرّائع ؛ قال عمر ساخرا ثمّ استطرد :
- لكنّي لا أدري عن أيّ شخص تتحدّث، إن كنت تتحدّث عنّي فإنّه لمن دواعي أسفي أن أعلمك بأنّي كائن بشري حياتي مليئة بالسّفاسف كأغلب بني نوعي!
- ليس هناك داع للتّظاهر بالتّواضع!
- عن أيّ تواضع تتحدّث يا أخي؟ قال عمر في مرارة ثمّ أضاف :
- أنا عبد ضعيف في عالم لا يرحم الضّعفاء : نحيل كعود كبريت لا أملك قوّة أردّ بها عدوان الظّالمين، رحيم كجدّة عجوز لا أملك كيدا أردّ به غدر الخائنين.. من ثمّ ليس لي أيّ إنجاز يضعني في نفس السلّة مع عظماء العقول الذين وصفتهم. أستيقظ كلّ صباح قسرا لأقوم بعمل ما قسرا متظاهرا بالسّعادة.. أن تتمتّع بكلّ لحظة تنفقها في عمل ما يحتاج إلى شحنة من الحماس هي جذوة داخل نفسك، أحيانا تجد من يؤجّج تلك الجذوة ليوم أو بعض يوم، لكن ذلك الجهد سرعان ما يذهب أدراج الرّياح.. كن أنت حارس جذوتك و مؤجّجها.. في كلّ يوم أرى الجذوات تنطفئ الواحدة تلو الأخرى، فقد صارت حياة المرء تفصيلا تافها وسط مئات التفاصيل الأخرى في عمله، فأنت تستيقظ و تنام و تأكل و تذهب إلى بيت الرّاحة في سبيل عملك، و تسطّر عاداتك الغذائيّة و الترفيهيّة و ما كان نفعه لآخرتك على مقاس العمل و ما يطلبه الأرباب في مملكة النّمل تلك.. نحن بيادق تملأ الصّفوف الأمامية تتقدّم عبثا نحو حتفها نكرة كما كانت أوّل كرّة، تموت ميتة بلا إنجازات تُذكر، منتهى أهدافها هو البقاء دورا آخر على رقعة لا عيش فيها لعبد مطأطئ الهامة لا صفة له.. نحن تلك الكائنات المجهريّة أحاديّة الخليّة التي تجدها في أسفل السلسلة الغذائية في كتب الأحياء، فلا ذاتيّة و لا هويّة، فقط مجرّد رقم في جداول الإحصاء أو مُعَرِف في سجّل يُفتح يوم توزيع فتات الأرباح، تلك الأجور التي نتقاضاها منّة من صاحب الفضل الذي نالنا شرف التّرفيع في رصيده البنكيّ بضعة ملايين من الدّنانير من عرقنا و دمائنا و بطوننا التي استأنست سمّ الشّوارع.. نحن أولئك العبيد بناة الأهرام الذين ماتوا و دفنوا في عرض الصّحراء في قبور بلا شواهد.. هم الإقطاعيون الجدد.. سابقا كان الإقطاعيّ يملك الأرض و من عليها لكن لم يكن له سلطان على القلوب، أمّا الآن فقد صار الإقطاعيّ يمتلك قلوبنا، أوَ ليس هو من علّمنا حبّ الاستهلاك و اللّهث وراء الحياة و ملذّاتها، فصارت أجسادنا عبيدا له و قلوبنا عبيدا لها.. نحن نعيش في مدينة لا نملك فيها سوى بضع أمتار مكعّبة من الهواء، لو وجدوا طريقة لحساب مقدارها لجعلوا لنا فواتير أكسيجين ندفع لهم معاليمها عن يد و نحن صاغرون..
- لم أكن أدري أنّك صرت شيوعيّا ؛ قال ضياء  في سخرية.
أطلق عمر ضحة غير متحفّظة ثمّ أخذ نفسا عميقا من سيجارته مستردّا بعض ما فاته من دخانها خلال خطابه الحماسيّ.
- في بعض الأحيان تبدو متفائلا و أحيانا أخرى لا أرى فيك إلاّ كتلة من التّشاؤم و السلبيّة ؛ قال ضياء بجديّة.
- لا تحاول تصنيفي بهذه الطّريقة السّاذجة.. قليلة هي الأشياء التي ينحصر تصينفها في خانتين : أبيض و أسود، الوجود يحوي مالا يقدر البشر على عدّه من الألوان و يكاد يكون كلّ ما فيه ملوّنا.. إن أردت تصنيفي فأنا أنتمي إلى طيف الواقعيّة و كفى. ألق نظرة حولك.. في هذا العالم نحاول جاهدين تلقين الأطفال معنى السّعادة ثمّ، و عند بلوغهم سنّ الرّشد، نسلبهم إيّاها بكلّ فظاظة.. هذا، يا صديقي، عالم سمته القسوة...

يتبع

---
Footnote: 
The image posted herein is copyrighted to its respective owners.

7 comments:

Primavera said...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

يبدو لي أن هذا النص من أجود ما كتبت

حاجة وحدة في الحوار ما يجيش تكتب الجملة وبعد تكتب "قال " ، حسب رأيي ومعرفتي المتواضعة :)

حاصيلو كيما يقولو أزلام فرنسا : برافو

وربي يعينك وتكمللنا البقية

Deceazed Fella said...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أشكرك على الإطراء
هو ربّما من أوضح ما كتبت

بارك الله فيك على النصيحة
في الواقع لا ألتزم بقواعد الرّواية لجهلي بها

سررت بقراءة تعليقك ^^

Lili said...

السلام عليكم و رحمة الله وبركاته

تاتاشي المرة هذه بالذات لازم تكمل تكتب المقال !
ما يهمنيش ! :P


يعطيك الصحة، طرحت موضوع مهم، و ديييييما في بالي ! و تحليلك ( تحليل عمر ) ، كان عميق و خاصة "واقعي" !

لنا عودة عما قريب بإذن الله :)

Deceazed Fella said...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

اي فمّة كمالة، نحاول نكتبها عن قريب ان شاء الله

واقعيّة قاتمة =D
نتفكّر كنت طرحت الموضوع هذا جزئيا قبل

بارك الله فيك على الزّيارة ^^
مرحّب بك دائما

Khaoula said...

"أستيقظ كلّ صباح قسرا لأقوم بعمل ما قسرا متظاهرا بالسّعادة...صارت حياة المرء تفصيلا تافها وسط مئات التفاصيل الأخرى في عمله، فأنت تستيقظ و تنام و تأكل و تذهب إلى بيت الرّاحة في سبيل عملك، و تسطّر عاداتك الغذائيّة و الترفيهيّة و ما كان نفعه لآخرتك على مقاس العمل و ما يطلبه الأرباب في مملكة النّمل تلك.."

ça me fait rappeler une citation de Camus " La lutte elle-même vers les sommets suffit un remplir un coeur d'homme... Il faut imaginer Sisyphe heureux! "

Littérairement, c'est un très beau texte! Merci pour le partage

Khaoula said...

Suffit à*

Deceazed Fella said...

بارك الله فيك على الإضافة
ما فهمته من مقولة كامو هو أن الطريق نحو تحقيق الحلم كل خطوة فيه هي إنجاز بذاتها
أشاطره الرأي في ذلك

شكرا على القراءة والتعليق

Post a Comment